"على و صفية" كتاب جديد يقض المضاجع، للصحفي العنيد محمد توفيق.. كتاب ينكش وينقر.. يجرجرك أول200 صفحة ُسهد وغرام، ثم يعرض لك الواقع من الوقائع، ولا ينصرف!! يطير نومك وخوفك، ويدفعك أنت للبوح!
كنت محظوظة من شهور برؤية زغاريد الفرح في عيني محمد توفيق ارتياحا، بعد تسليم حروف وصفحات الكتاب للمطبعة.. وكأنه الشاهد الوحيد المؤتمن على قصة حب الصحافة والوطن.
الكتاب أمامي حي ينبض.. أقرر بحكم العادة التلصص على المقدمة، وربما كام صفحة، لحين يأتي الصباح ويصفو ذهني لاستقباله كما يستحق.. أفتح غلافه الحاضن، فينشلني، وينتشلني من غم تغريب مصر الجديدة!! لأتوحد مع أبطاله، وزمانه، وأستعيد حروبا وانتصارات، وأتشبث بقناعاتي، وأبتهج بحسن تقديري لأحداث ولبشر نبلاء وأنذال!! سرقني الكتاب لساعات ثم غمرني اطمئنان.
مين "على" ومين "صفية"!! "علي يوسف" هو الصحفي صاحب جريدة المؤيد، وصفية السادات هي بنت الأكابر أيام المشربية والتطريز، وانبهار المصريين برقي المحتلين مظهرا ومسلكا وعلما!! وما لنا برسائلهما الملتهبة عشقا بالفصحى في زمن رمضان وشاكوش وكفته الذي هوى على هامات الشعر ومرمط المعشوقة مخدرات وهز وسط!! ماذا يعنينا من معركة حب أشعلت حربا فات عليها قرن وربع، أخجلوا الحب العذري!! الإجابة هي سؤال خبيث بآخر سطور الكتاب!
وأهمية قضية الحب هي في كشف المستور عن ازدواجية قادة فكر وتنوير وفقا للمصالح وأحيانا الشهوات.
حب صفية وعلي، روى بذرة الحرية الكامنة في نفوس اعتادت عبودية الاحتلال، ثم قهرها الجهل والفقر.. حبهما كسر جمود الثوابت، أيقظ البصائر، أطلق سهام التمرد، فانفتح وعي المجتمع، وأشرق الفن ثقافة.
صفية بنت العز والجاه كانت تحلم بحرية ورقي وعقلية نساء أوروبا، و"على" كان يحلم بوطن تحكمه حضارته.. حلمهما المشترك هو الحرية، قاتلت هي ونالتها، لكن جنح "على" لجمع غنائم اشتهاها فهوت به، حتى عاجله القدر بالقاضية!!
المؤلف العنيد "محمد توفيق"، ختم بسؤال خبيث :- هل كانت "صفية" تستحق ما فعله "على" من أجلها؟!!
"على يوسف" نموذج الصحفي العصامي البهلوان.. بدأ بالألاعيب التقليدية المضمونة للوقوف على قمة جبل الشهرة والثروة.. أسس ورأس تحرير جريدة اللواء مع مصطفي كامل ومحمد فريد، كثلاثة أصدقاء وطنيين.. افتتح بقضية استقلال الوطن، ثم تمادى في حوار الحرية جاذبا السلطة لشرائه واستخدامه، ونجح حتى أسكره النجاح كوطني تسمح له السلطة بهامش حرية يمنحها القبول وسهولة توجيه الشعب.. ارتفع "علي" لكن الوجاهة الاجتماعية ينقصها النسب!! بسهم واحد من كيوبيد دخل قصر الأشراف، تسلل فأشعل حرب أنساب أيدها القضاء والمجتمع، فانهزم.. واجه الهزيمة بالحيلة فانتصر منتزعا مكانة نقيب الأشراف من فك الأسد نفسه.. بعدها اعتزل الصحافة، وأصبح سطرا في صفحة التاريخ ونسيناه.. لكن أصدقاءه مصطفى كامل ومحمد فريد عاشوا ضمن فرسان شرف الكلمة، نماذج صادقة للتنوير والوطنية.
والصحفي الشاب " محمد توفيق"، استحق لقب جبرتي الصحفيين منذ نشر كتابه الصادق النبيل مثله "الملك والكتابة".. هو يوجين حامل المصباح صباحا!! لكنه يواصل جمعها بدأب في سلسلة كتب (11 كتاب) لتثبيت الأبرياء بوقائع، ونماذج لأبطال شهداء، ومحتالين محترفين.. محمد توفيق ماض في تعضيد أجيال الصحفيين لتجنب العثرات، وجذبهم لمشاركته متعة الوصول لمحطات الأمل عبر التاريخ.. الأمل في فرسان صحافة يثمرون شعبا مستنيرا ووطنا حاضنا.
"على يوسف" صاحب حلم هو رسالة طريقها تضحيات واستشهاد، لكنه جنح لطريق المغانم، وتحمل مهانته بثبات!! بينما المحبوبة تطل من ثقب شرنقة المجتمع، أقدامها مخملية لم تطأ الحياة، سقطت مصاريعها بكلمة غزل من رجل ناضج مثقف مشهور، فأبحرت مع قيس وليلى وجميل وبثينة، في سفينة رست بهما على مرفأ "علي" ومبتغاه هو!!
قصة حبهما سجلت أول دعوى تفريق اشترك فيها المجتمع.. أشعلت فيها الصحافة معارك نزعت أحجبة المصريين، حررت النفوس، وفرضت الدستور، وجاءت بثورة 1919 والمرأة شريك وليس تابعا.
قصة الحب هي عدسة مكبرة لمجتمعنا في بدايات القرن العشرين.. رصدت حال شعب يحكمه سلطان وخديوي وانجليز، قسموه إلى طبقة عبيد وطبقة أزهريين تجاهد لترتقي بالشعب والوطن، وطبقة أسياد أغلبهم مكبل بالحسب والنسب والتقاليد والأعراف.. الكتاب يجبرك على المقارنة، وستدهشك محاولة إحصاء الاختلافات بين الصورتين بعد قرن ويزيد!!
لن تعود صفية صيدا لطُعم سِنًارته الغزل.. لكن ستظل معارك الصحافة لانتزاع الحرية، والحرية جمر مشتعل، يُطهر ويُضيء.
-------------------------
بقلم: منى ثابت